القائمة الرئيسية

الصفحات

شرح المانع الرابع من موانع التكفير ( التأويل )

                   بسم الله الرحمن الرحيم 

- شرح المانع الرابع من موانع التكفير ( التأويل ) لأبي محمد المقدسي : 



والمراد به هنا وضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهاد ، أو شبهة تنشأ عن عدم فهم دلالة النص ، أو فهمه فهما خاطئا ظنه حقا ، أو ظن غير الدليل دليلا ، كالاستدلال بحديث ضعيف ظنه صحيحا ، فيقدم المكلف على فعل الكفر وهو لا يراه كفرا ، فينتفي بذلك ؛ (شرط العمد ) ، ويكون الخطأ في التأويل مانعاً من التكفير ، فإذا أقيمت الحجة عليه وبين خطؤه فأصر على فعله كفر حينئذ .ودليل هذا إجماع الصحابة على اعتبار هذا النوع من التأويل من باب الخطأ الذي غفره الله تعالى بالأدلة المتقدمة – وذلك في حادثة قدامة بن مظعون حيث شرب الخمر مع جماعه مستدلاً بقوله تعالى :(( ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين )) 93 المائدة ، كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه … وكان قدامة قد استعمله عمر على البحرين ، فلما شهد عليه أبو هريرة وغيره وشهدت معهم امرأة قدامة أيضاً أنه شرب الخمر أحضره عمر وعزله ، ولما أراد أن يحده استدل بالآية المذكورة فقال عمر : أخطأت التأويل ( أخطأت استك الحفرة )…

 قال ابن تيمية في الصارم : ( حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه ، فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا ) أهـ ص530 … ثم إن عمر بين له غلطه وقال له : ( أما إنك لو اتقيت لاجتنبت ما حرم عليك ، ولم تشرب الخمر ..)فرجع ، ولم يكفره بذلك ، بل اكتفى بإقامة حد الخمر عليه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة بذلك .

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك ، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك ، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم فإن أصروا كفروا حينئذ ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل ) أ هـ . مجموع الفتاوي (7/609-610)

ويقول أيضاً : ( فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر ، بل قد جعل الله لكل شيء قدراً ) أهـ مجموع الفتاوي (3/180)

فمذهب السلف عدم تكفير المتأولين من أهل القبلة ..أهل القبلة يدخل فيهم اضافة إلى المسلم السني ؛ الفاسق الملي أهل الأهواء أهل التأويل ..اما الخوارج والمعتزلة ومن سار على دربهم كالزيدية وبعض المتكلمين كالشهرستاني في الملل والنحل فلا يدخلون المتأولين في أهل القبلة .وقد تقدم ما نقله القاضي عياض في (فصل تحقيق القول في إكفار المتأولين ) من كتابه الشفا (2/277) عن العلماء المحققين قولهم : ( إنه يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل ، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر ... )

 وستأتي الإشارة إلى ما ذكره أيضا في الشفا عمن لا يكفر من أضاف إلى الله ما لا يليق به لا على جهة السب والردة ، ولكن على طريق التأويل أو نفي الصفة بدعوى التنزيه ونحوه ..ويقول ابن الوزير : ( قوله تعالى في هذه الاية الكريمة (( ولكن من شرح بالكفر صدراً )) يؤيد أن المتأولين غير الكفار ، لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظناً ، أو تجويزاً أو احتمالاً )اهـ . إيثار الحق على الخلق ص (437)وأما ما يدفع به بعض الزنادقة والملاحدة ، كفرهم الصريح من سفسطة وتمويه وتلاعب بالدين ، فهو وإن سماه بعض الجهلة تأويلاً .. إلا انه مردود وغير مستساغ ولا مقبول ، وذلك لصراحة كفرهم ووضوحه .. والعبرة للمعاني والحقائق ، لا للأسماء والألفاظ التي يتلاعب بها كثير من أهل الأهواء .. فكم من باطل زخرفه أصحابه ليعارض به الشرع .ولذلك نقل القاضي عياض في الشفا قول العلماء : ( إدعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل ) أهـ (2/217)

ونص عليه شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص (527)فمن عرفت واشتهرت زندقته وتلاعبه بأدلة الشرع ، أو كان يتعاطى من أسباب الكفر ما هو صريح وواضح ولا يحتمل التأويل ، لم تقبل منه دعوى التأويل فليس ثم إجتهاد وتأويل يسوغ تعاطي الكفر الصريح .. فإنه لا تخلو حجة كافر من الكافرين من تأويلات فاسدة يرقع بها كفره ..

ولذا قال ابن حزم: ( ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من طريق ثابتة ، وهو مسلم فتأول في خلافه إياه ، أو ربما بلغه بنص آخر ، فلم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك ، وفي الأخذ بما أخذ فهو مأجور معذور ، لقصده إلى الحق ، وجهله به ، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند ، فلا تأويل بعد قيام الحجة ) أهـ الدرة (414)

ويقول : ( وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي ، أو سائر الملل ، أو الباطنية القائلين بإلاهية إنسان من الناس ، أو بنبوة أحد من الناس ، بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يعذرون بتأويل أصلاً ، بل هم كفار مشركون على كل حال ) أهـ الدرة فيما يجب اعتقاده ص (441) .

فيجب التنبه إلى أن قدامة الذي عذر بالتأويل ، كان الأصل فيه الإسلام والصلاح ، فقد كان صحابياً بدرياً ، وهو خال عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين ، وكانت تحته صفية بنت الخطاب أخت عمر ،

 روى ابن عبد البر في الاستيعاب (3/341) بإسناده عن أيوب بن أبي تميمة قال : ( لم يحد في الخمر من أهل بدر إلا قدامة بن مظعون ) أهـ

ولذلك قال شيخ الإسلام بعد ما ذكر حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته بحرق جثمانه قال : ( والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من المغفرة من مثل هذا ) أهـ (3/148

وقد ذكر القاضي عياض في الشفا (2/272وما بعدها ) خلاف السلف في تكفير من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به لا على طريق السب والردة ،بل على طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدعة .والصواب ما فصله العلماء في ذلك بين التأويل الذي له مسوغ في لغة العرب ، كأن يؤول صفة اليد لله تعالى بالنعمة أو القوة ، فهذا لا يوجب الكفر ، رغم مخالفته للحق الذي كان عليه السلف ، لأن في لغة العرب إطلاق القوة والنعمة على اليد ؛ لذلك عذر المتأول فيه رغم خطئه وانحرافه عن ظاهر نصوص الشرع ، وبين التأويل الذي لا مسوغ له ، كمن أوّل قوله تعالى (( بل يداه مبسوطتان)) مثلاً ، بالحسن والحسين أو بالسماوات والأرض ، فهذا يوجب الكفر لأنه لا يصح في لغة العرب إطلاق اليد على مثل ذلك .وليس ثم نص شرعي يوجب نقل الحقيقة اللغوية إلى حقيقة شرعية خاصة ..

فهو على ذلك من التلاعب في دين الله والإلحاد في أسمائه سبحانه ، وليس من التأويل الذي يعذر صاحبه في شيء .فتأمل التفريق فإنه مهم ..وعلى هذا فما كان من التأويل ناشئاً عن محض الرأي والهوى ، دون استناد إلى دليل شرعي ، ولا هو بمستساغ في لغة العرب ، فإنه ليس من الاجتهاد في شيء ، بل هو من التأويل الباطل المردود الذي لا يعذر صاحبه ، إذ هو تلاعب بالنصوص ، وتحريف للدين ، عبر عنه بمسمى التأويل، 

ولذا قال ابن الوزير : ( لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم ؛ بالضرورة للجميع ، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله ، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى ، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار ) أهـ إيثار الحق على الخلق ص(415) .ومن ذلك قطعاً أصل التوحيد ، الذي يتضمن تجريد العبادة لله وحده بكافة أنواع العبادة ، فنقض هذا الأصل بدعوى التأويل الذي يسوغ الإشراك بالله تعالى واتخاذ الأنداد معه من أوضح الباطل ؛ الذي بعثت الرسل كافة بإبطاله وإنكاره ..

وقد نص العلماء على أن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل شرعي ، ليس من التأويل المستساغ بحال ، إذ بذلك تسلط المتأخرون على النصوص ، وقالوا نحن نتأول ، فسموا التحريف تأويلاً ، تزييناً وزخرفة ليقبل منهم … 

وقد ذم الله تعالى من يزخرف الباطل ويزينه ليلبس أمره على الناس فقال تعالى :((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)) الأنعام (112).•

وعلى كل الأحوال فإن الخطأ في التأويل يسقط كمانع من موانع التكفير ، بإقامة الحجة على المتأول .



                         والله وليَّ التوفيق 
      لا تنسونا من صالح دعائكم 

تعليقات