القائمة الرئيسية

الصفحات

شرح المانع الثالث من موانع التكفير ( الخطأ )

            بسم الله الرحمن الرحيم  

- شرح المانع الثالث من موانع التكفير ( الخطأ ) :

الخطأ : بما يؤدي إلى سبق اللسان ( أي : انتفاء القصد) فينطق بالكفر وهو لا يقصد ولا يريد القول أو العمل المكفر نفسه ، بل يقصد شيئاً غيره .وهذا العارض أو المانع يبطل ما يقابله من شرط العمد .ودليله قوله تعالى (( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم)) (50) الأحزاب ، ويدل عليه أيضاً حديث الرجل الذي أضل راحلته في أرض قفر ، فلما وجدها قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك) ( أخطأ من شدة الفرح) كما قال صلى الله عليه وسلم .


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين – وإن أخطأ وغلط- حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة ، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ) أهـ مجموع الفتاوي (12/250)


وقد تكلم ابن القيم رحمه الله تعالى في اعلام الموقعين (3/65-66) عن هذا المانع وقرر أن انتفاء القصد مانع من موانع التكفير المعتبرة ، واستدل بقول حمزة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ( هل أنتم إلا أعبد لأبي ) قال : ( وكان نشواناً في الخمر ، فلم يكفره صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكذلك الصحابي الذي قرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ) وكان ذلك قبل تحريم الخمر . ولم يعد بذلك كافراً لعدم القصد ، وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه .فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه .) أهـ ص66

وقال أيضاً فيه (3/117) : ( ولم يرتب { أي الشارع } تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علماً ، بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل به أو تكلم به ، وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به ، إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه ، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم ، هذه قاعدة شرعية وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته ) أهـ•


فائدة : يمكن أن يستدل لمانع (انتفاء القصد ) أيضاً بما هو ثابت من اغتفار ما صدر عن بعض نساء النبي صلى الله عليه و سلم بحقه بدافع الغيرة ؛ من أقوال لا يجوز لأحد إطلاقها بحقه صلى الله عليه وسلم.- فمن ذلك ما رواه البخاري في باب ( هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد ) من كتاب النكاح ، وفيه أنه لما نزل قوله تعالى (( ترجي من تشاء منهن )) : قالت عائشة : ( يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ) .

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ( أي في رضاك ، قال القرطبي هذا القول أبرزه الدلال والغيرة وهو من نوع قولها : (ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله ) وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى . ولو قالت إلى مرضاتك لكان أليق ، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك ) أهـ .- ومثله ما رواه أيضاً في كتاب الهبة وفضلها ، باب (من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض ) وفيه قول زينب بنت جحش للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن نساءك ينشدنك الله ، العدل في بنت أبي قحافة …) فليس هذا من جنس الطعن والأذى الذي كان دافعاً لذي الخويصرة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إعدل ) .بل الدافع هنا فرط محبة النبي صلى الله عليه وسلم والغيرة التي جبلت عليها النساء .. والشح بحظهن منه .

قال الحافظ : ( طلبت العدل مع علمها بأنه أعدل الناس ولكن غلبت عليها الغيرة ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق ذلك ) أهـ .

وقد حكى القاضي عياض في الإكمال عن مالك وغيره ، إن المرأة إذا رمت زوجها بالفاحشة ، على جهة الغيرة لا يجب عليها الحد ، قال واحتج بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : ( وما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله ) أهـ من الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص61 .
ويتبع هذا المانع ( إنتفاء القصد ) قول الكفر على سبيل الحكاية عن الغير .- كمن يقرأ كلام الكفار الذي قصه الله تعالى في كتابه ، وقد أمر الله بتلاوة كتابه ، فلا يكفر قارئ ذلك قطعا بل يؤجر .- وكنقل الشاهد ما سمعه من كفر للقاضي أو غيره .- وكنقل مقالات الكفار لبيان ما فيها من الفساد أو للرد عليها ، فكل ذلك جائز أو واجب لا يكفر قائله ، ولهذا يقال : (ناقل الكفر ليس بكافر ) بخلاف من حكاه ونقله على سبيل النشر أو الإشاعة على سبيل الإستحسان والتأييد فهذا كفر لا ريب .

قال القاضي عياض تعليقاً على حديث مسلم في الذي انفلتت منه ناقته وعليها طعامه وشرابه في مهلكة ، ثم لما ردها الله عليه ( أخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) قال : ( فيه أن ما ناله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به ، وكذا حكايته عنه على طريق علمي ، وفائدة شرعية ، لا على الهزل والمحاكاة والعبث ، ويدل على ذلك حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولو كان منكراً ما حكاه والله اعلم)أهـ .

وقرائن الحال لها دخل في التفريق والتميز بين هذه الأحوال .
قال القاضي عياض ( أن يقول القائل ذلك حاكياً عن غيره وأثراً له عن سواه ، فهذا ينظر في صورة حكايته مقالته ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه : الوجوب ، والندب ، والكراهة ، والتحريم ) أهـ الشفا(2/997-1003)

وقال ابن حزم : ( الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عز وجل ، لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكياً وقارئاً له في القرآن ، فلا يكون بذلك كافراً حتى يقر أنه عقده . قال : فإن احتج بهذا أهل المقالة الأُول - يعني المرجئة والجهمية – وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفرا ، قلنا له وبالله تعالى التوفيق : قد قلنا إن التسمية ليست لنا ، وإنما هي لله تعالى ، فلما امرنا تعالى بتلاوة القرآن ، وقد حكا لنا فيه قول أهل الكفر ، وأخبرنا تعالى انه لا يرضى لعباده الكفر ؛ خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل والإيمان ، بحكايته ما نص الله تعالى .{ و لما أمر الله تعالى }  بأداء الشهادة بالحق فقال تعالى : ((إلا من شهد بالحق وهم يعلمون )) خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافرا ؛ إلى رضى الله عز وجل والإيمان … ) أهـ. من الفصل ( 3/249-250)-

ومن ذلك أيضاً أن يتكلم الإنسان بكلام أو ينطق لفظاً لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بذلك حتى يعرف فيتكلم به قاصداً بمعناه بعد قيام الحجة ..

ففي (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) للعز بن عبد السلام ( فصل فيمن أطلق لفظاً لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه ) قال رحمه الله : ( فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو إيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشيء من ذلك ، لأنه لم يلتزم مقتضاه ولم يقصد إليه ، وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه ، فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك ، لأنه لم يريده فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون ، وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه ، فإن كان لا يعرف معانيها ، مثل أن قال العربي لزوجته أنت طالق للسنة أو للبدعة وهي حامل بمعنى اللفظين ، أو نطق بلفظ الخلع أو غيره أو الرجعة أو النكاح أو الإعتاق وهو لا يعرف معناها مع كونه عربياً فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك ، إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد إلى اللفظ الدال عليه ) أهـ .(2/102).

وانظر أيضاً لابن القيم في إعلام الموقعين (3/75):( لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر) .حيث قال وهو يتكلم في إطلاق ألفاظ الطلاق وأهمية وجود القصد فيها لنفاذ الطلاق : ( وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها ،كما أنه لا بد أن يكون قاصداً للتكلم باللفظ مريداً له ،

فلا بد من إرادتين :- إرادة التكلم باللفظ اختياراً - وإرادة موجبه ومقتضاه . بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ ، فإنه المقصود ، واللفظ وسيلة ، وهو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام ) ، إلى قوله : ( وقال أصحاب أحمد لو قال الأعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذا اللفظ ، لم تطلق ، لأنه ليس مختاراً للطلاق ، فلم يقع طلاق كالمكره ، قالوا : فلو نوى موجبه عند أهل العربية لم يقع أيضاً لأنه لا يصح منه اختيار ما لا يعلمه ، وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لا يكفر. 


وفي مصنف وكيع أن عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها: سمني ، فسماها الطيبة ، فقالت : لا ، فقال لها ماذا تريدين أن أسميك ؟ قالت: سمني (خلية طالق) . فقال لها : أنت خلية طالق ، فأتت عمر بن الخطاب فقالت : إن زوجي طلقني ، فجاء زوجها فقص عليه القصة ، فأوجع عمر رأسها ، وقال لزوجها : خذ بيدها وأوجع رأسها .وهذا هو الفقه الذي يدخل على القلوب بغير استئذان ، وإن تلفظ بصريح الطلاق

وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) أخطأ من شدة الفرح ، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر ، لكونه لم يرده ) أهـ •

تنبيه :ومن هذا تعرف أننا لا نعني بانتفاء القصد كمانع ما يشترطه كثير من مرجئة العصر كشرط تعجيزي للتكفير ، يعتذرون به لكل طاغوت وزنديق ومرتد ، وهي دعوى ان الإنسان لا يكفر حتى وإن اتى فعلاً أو قولاً مكفراً –عامداً – حتى ينوي ويقصد بذلك الخروج من الدين والكفر به .

وإنما نعني بمانع انتفاء القصد ؛ ( الخطأ ) الذي يقابل العمد في شروط التكفير ، أو عدم إرادة الفعل أو القول المكفر نفسه ، وإرادة شيء آخر غيره … كحكايته والتحذير منه، أو يقوله وهو لا يعرف مدلوله ونحو ذلك مما تقدم ..أما إرادة الخروج من الدين ، والكفر بذلك الفعل أو القول ، فقّل من يريده أو يصرح به أو يقصده ، حتى اليهود والنصارى ، لو سئلوا ؛ هل يريدون الكفر ويقصدونه بقولهم إن المسيح أو العزير ابن الله ، أو نحو ذلك من كفرياتهم ؟ لأنكروا ذلك ولنفوا إرادتهم للكفر 

..وكذلك حال كثير من الكفار الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا .. فأكثر الطواغيت وأنصارهم اليوم ، إذا ما عددنا عليهم كفرياتهم ، أنكروا ذلك ، وأبوا أن يقروا بالكفر أو بإرادته أو بقصد الخروج من الدين ، بل يبادرون بتأكيد انهم مسلمون ، ويحتجون بأنهم يصلون ويشهدون أن لا إله إلا الله …وكذلك شأن كفار قريش ، لم يقروا قط بكفرهم ، أو بإرادتهم للكفر بعبادتهم للأوثان بل قالوا ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) .. وعلى العكس ،
فقد كانوا يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على دينه بالكفر ، فسموه (الصابئ ) وهكذا حال أكثر الكفار إلا ما شاء الله ..-

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص177-178 : (وبالجملة فمن قال وفعل ما هو كفر ، كفر بذلك ، وإن لم يقصد أن يكون كافراً ، إذا لا يقصد الكفر أحداً إلا ما شاء الله ) أهـ .

وقال أيضاً فيه ص(370) : ( والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب ، فكذلك تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة ، كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية ؛ وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه ، كما لا ينفع من قال الكفر أن لا يقصد الكفر ) أهـ .

وقد اخبر الله تعالى عن اكثر الكفار أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، بل يرون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا .فمن ذلك قوله تعالى : (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)) (103-105) الكهف .-

يقول ابن جرير الطبري في تفسيره : ( وهذا من أدل الدلائل على خطأ من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته ..)إلى قوله : ( ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعة مثابين مأجورين عليه ، ولكن القول بخلاف ما قالوا ؛ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة ) أهـ ص 44-45 .(ط . دار الفكر )-

وقال رحمه الله تعالى في تهذيب الآثار بعد أن سرد بعض الأحاديث التي تذكر الخوارج: ( فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً ) أهـ نقلاً عن فتح الباري ( كتاب استتابة المرتدين ..) (باب من ترك قتال الخوارج..)-


وقال ابن حجر في الباب نفسه : ( وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ، ومن غير أن يختار ديناً على الإسلام ) أهـ

 والخلاصة هنا ؛ أن العبرة في اشتراط العمد والقصد وانتفاءه كمانع من موانع التكفير أن يقصد إتيان الفعل المكفر ، لا أن يقصد الكفر به .


                  و الله وليُّ التوفيق 

تعليقات