القائمة الرئيسية

الصفحات

شرح المانع الثاني من موانع التكفير ( الجهل )

                   بسم الله الرحمن الرحيم   

- شرح المانع الثاني من موانع التكفير ( الجهل ) :

وإنما يكون مانعا وعذرا إن كان من الجهل الذي لا يتمكن المكلف من دفعه أو إزالته …أما ما كان متمكناً من إزالته ، فقصر وأعرض ولم يفعل فهو جهل من كسبه غير معذور به ، ويعتبر كالعالم به حُكماً ، وإن لم يكن عالماً في الحقيقة .. فإن هذا هو حال المعرض عن دين الله ، وهو من بلغه كتاب الله الذي علقت به النذارة ، فأعرض عن تعلمه أو النظر فيه ، لمعرفة أهم المهمات التي خلقه الله من أجلها … قال تعالى (( فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة )) وقال تعالى : ((وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ))فمن بلغه القرآن ، ووصلته التذكرة فأعرض عن التوحيد ، وارتكس في حمأة الشرك والتنديد ، فهذا لا يعذر بجهله لأنه هو الذي كسبه بإعراضه .. والعلماء متفقون على عدم عذر المعرض إن تمكن من العلم ، وإنما الخلاف بينهم في عذر من لم يتمكن من ذلك ، وهو خلاف عديم الجدوى فيما نحن فيه ، لأن دين الله قد بلغ الآفاق ، وكتاب الله بل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينه له ، محفوظان ، ومظنة تعلم ذلك كله موجودة ميسرة لكل أحد ، فلم يبق والحال كذلك إلا جهل الإعراض ، خصوصاً فيما اشتهر من دين الإسلام وعرف وذاع وشاع ليس بين المسلمين فقط ، بل وحتى بين اليهود والنصارى وغيرهم ؛ كالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام وقطب رحاه .ولذلك نص العلماء في قواعدهم الشرعية كما قال القرافي (684هـ) : ( ان كل جهل يمكن المكلف دفعه ، لا يكون حجة للجاهل ) أنظر الفروق (4/264) وأيضاً (2/149-151) .ويقول ابن اللحام:( جاهل الحكم إنما يعذر إذا لم يقصر أو يفرط في تعلم الحكم،أما إذا قصر أو فرط فلا يعذر جزماً ) أهـ القواعد والفوائد الأصولية ص (58) .هذا واعلم أن مانع الجهل فيه تفصيل يطول ، وقد صنف فيه أهل عصرنا المصنفات ، ما بين إفراط وتفريط ، وقد نفاه أقوام بالكلية ، فأخطأوا ، وكفّروا من لم يكفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..ووسعه آخرون فتعدوا حدود الله فيه ، حتى عذروا المرتدين المعاندين ، والكفرة المعرضين عن دين الله ، أولئك الذين جهلوا دين الله بكسبهم وإعراضهم عنه ، واستحبابهم الحياة الدنيا وزخرفها .. فتراهم أعلم الناس في كل ما دق وجل من أمورها وقشورها ، بينما لا يرفعون رأساً بتعلم أهم وأول ما افترض الله على ابن آدم تعلمه ، هذا مع توفر مظنة العلم ، والكتاب والسنة بين أيديهم –كما قلنا- فهم ممن قال الله تعالى عنهم (( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )) .• وإنما الذي يعذر ويعتبر في حقه هذا المانع كمانع من موانع التكفير ، من كان عنده أصل التوحيد لكن خفيت عليه بعض المسائل التي قد تشكل أو تخفى أو تحتاج إلى تعريف وبيان ، ومن جنس ذلك باب أسماء الله وصفاته ، فقد دلت أدلة الشرع على عذر المخطئ فيها من أهل التوحيد ، وعدم جواز تكفيره إلا بعد إقامة الحجة بالتعريف والبيان ..• كما في حديث الرجل الذي أسرف على نفسه فلم يعمل خيراً قط إلا التوحيد(16) ، فأوصى بنيه ، عند موته أن يحرقوه ويذروا رماده ، وقال لإنْ قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحد من العالمين .وفيه جهله بسعة قدرة الله وأنه سبحانه قادر على بعثه حتى وإن احترق وتفرقت أجزاؤه ، ومع هذا فقد غفر الله له لتوحيده وخشيته لله ، فدل ذلك على أن الخطأ والجهل في مثل هذا الباب يعذر فيه الجاهل إن كان من أهل التوحيد ..ولذلك نص شيخ الإسلام ابن تيمية في مناظرته على (العقيدة الواسطية ) التي جلها في باب الأسماء والصفات ، وذلك لما اعترض بعض المناظرين على قوله فيها (هذا اعتقاد الفرقة الناجية ) قال رحمه الله : ( وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً ، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ) أهـ الفتاوى (3/116)• ومن هذا الباب أيضاً اعتبار مانع الجهل في حديث العهد بالإسلام أو من نشأ في بادية بعيدة يتعذر وصول تفاصيل الشرع إليها ونحو ذلك .. فإنه يعذر فيما خفي عليه ما دام من أهل التوحيد مجتنباً للشرك الأكبر والتنديد .• وقد قدمنا لك في أول هذا الفصل تفريق شيخ الإسلام في الفتاوى (35/101) بين تكفير المطلق وتكفير المعين ، وأن تكفير المعين لا بد فيه من تبين الشروط والموانع … ثم ضرب على ذلك أمثلة فقال : ( مثل من قال : إن الخمر والربا حلال ، لقرب عهده بالإسلام ، أو لنشوئه في بادية بعيدة ، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد انه من القرآن ولا انه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثل الذي قال : إذا أنا مت فاسحقوني ، وذروني في اليم ، لعلي أضل عن الله ، ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة ، كما قال الله تعالى ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ) أهـ .يقول ابن حزم : ( ولا خلاف في ان امرءاً لو أسلم – ولم يعلم شرائع الإسلام- فاعتقد أن الخمر حلال ، وأن ليس على الإنسان صلاة ، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به ، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر ) أهـ المحلى (13/151)وقال أيضاً في الفصل (4/105) : ( ومن لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه ، وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم ، بأرض الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع ، فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً ، لانقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة ، وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً ، إذا عملوا بالحرام وتركوا المفروض ) أهـ وقال ابن قدامة في المغنى (كتاب المرتد ) (مسألة : ومن ترك الصلاة ) : ( لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك ، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث العهد بالإسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم ، لم يحكم بكفره ، وعرّف ذلك ، وتثبت له أدلة وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر ، وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحدها ، وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها …) أهـ .وقد استدل العلماء لذلك أيضاً بما روي في سنن الترمذي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط ، فقلنا يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى ، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، قال إنكم قوم تجهلون ، لتركبن سنن من قبلكم )فاستدل من صحح هذا من العلماء على ( أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي فانتهى لا يكفر )(17) وليس فيه عذر المشركين بالشرك الأكبر كما يستدل به مرجئة العصر للطواغيت وأنصارهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لطلب الصحابة وأنكره عليهم لكنه عذرهم ولم يكفرهم …بينما لم يعذر المشركين في اقترافهم للشرك ..فالصحابة طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم جهلاً منهم ، لأنهم كانوا حدثاء عهد بكفر ، ظناً منهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم له أن يجعل لهم شجرة يعكفون عندها يعبدون الله .. ولم يقترفوا شركاً ، ولا ذريعة من ذرائعه ، فيجب الوقوف بالدليل عند حدوده ودلالاته التي يحتملها ، بأن يعذر به الجاهل ما لم يقترف الشرك الأكبر أو الكفر الواضح المستبين .وذلك لأن الأدلة الشرعية قد دلت على أن نقض أصل التوحيد بالكفر البواح أو بالشرك الصراح الواضح المستبين المعلوم بالضرورة إنكاره في دين المسلمين ، والذي لا يخفى على صبيان المسلمين ، وحتى اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بإبطاله وهدمه ، فهذا لا يعذر الجاهل في مثله ، خصوصاً مع إتمام الله نعمته على الأمة بحفظ كتابه الذي علق سبحانه النذارة فيه وببلوغه ،فمن بلغته النذارة ونقض أصل التوحيد بالكفر أوالشرك الصراح الواضح المستبين فهو كافر بل ومعذب في الآخرة ولا يصلح الاعتذار له بالجهل لأن جهله والحال كذلك جهل إعراض لا جهل من لم يتمكن من العلم ، ويدل على ذلك دلالة واضحة قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن أبيه : ( إن أبي وأباك في النار)(18) مع أن هؤلاء الآباء من القوم الذين قال الله تعالى فيهم :(( لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون )) وقال : ((لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون )) ، فهؤلاء لم يعذروا بالشرك الأكبر مع انهم ما أتاهم نذير خاص بهم .. وما ذلك إلا لأن الشرك الأكبر الصراح، قد أقام الله على الإنذار والتحذير منه حججه البالغة الواضحة ، وأرسل كافة رسله منذرين ومحذرين منه ، وأنزل جميع كتبه من أجل هدمه والتحذير منه .. ثم جعل خاتمها كتاب لا يغسله الماء تكفل بحفظه وعلق النذارة به ، فمن باب أولى أن لا يعذر بمثل ذلك من جاؤوا بعد ذلك .قال القاضي عياض في الشفا (2/231) في معرض كلامه على ساب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الكفر الصريح الذي لا يعذر الجاهل به .قال : ( أو يأتي بسفه من القول أو قبيح من الكلام ونوع من السب في جهته وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ذمه ولم يقصد سبه إما لجهالة حملته على ما قاله أو ضجر أو سكر اضطره إليه ، أو قلة مراقبة وضبط للسانه وعجرفة وتهور في كلامه ؛ فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم إذ لا يعذر أحد بالكفر بالجهالة ) أهـ .أي الكفر الصريح الذي هو من قبيل سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فقد تقدم قول القاضي نفسه في وجوب الإحتراز في إكفار المتأولين من المصلين الموحدين .
               والله وليُّ التوفيق .

تعليقات